للغربة مرارة، مرارة الظلم يتذوقها القلب ويستشعر حروفها اللسان كم من غريب أجبرته الظروف على الغربة وتكون هي أفضل الأمرين: فلا أنت في وطنك مرتاح ولا في غربتك قرير العين.
آهٍ من غربة عصرت مرارتها قلبي، أمشي في شوارعها أبحث عن نفسي، عن وجه حبيبتى التي اعتدت أن أراه في شوارعها، حبيبتى التي أتنفس هواها فيرتوي قلبي من نسيمها، حبيبتى التي بها رفاقي وأصدقاء الشباب والصبا.
حبيبتى التي بها أهلي وأمى، تلك حبيبتى هي بلدى، التي إذا مشيت بشوارعها أبتسم لها، عذرًا حبيبتي تركتك قهرًا، فلم يعد لي طاقة أن أخفي دموعي وأن أفارقك، كنت أتظاهر بالسعادة أني اخترت لي وطنًا وقلت أنه الأفضل، أما الآن فقد خارت قواي، صرت غريبًا لا يسمعني سوى نفسي.
ماهي الغربة؟
الغربة عرفها أهل اللغة أنها مصدر مشتق من الفعل غرب، أي بعد وصار غريبًا، يقال : فلان طالت غربته، أي طال زمن بعده عن أهله وناسه، ولذلك سمي الموطن أم يقال فلان موطنه الأم كذا، أي بلده الأصلي كذا لأن الوطن يشيه الأم يحتضن كل أبناءه الصالح والطيب والغير صالح فكما نقول دائمًا الوطن للجميع.
فالغربة لها أسباب ولها ( فوائد مع كل تلك الأوجاع لا يمكننا تغافلها )
فنجد من يغادر بلده مضطر ربما بسبب الحروب وربما بسبب المجاعات وربما بسبب ضيق العيش، وربما بسبب التطلع لحياة أفضل وربما رغبة في الإستزادة من العلم.
والغربة والهجرة شيء مشروع لمن يبحث عن الإستزادة في الخير وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: “ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة” فنجد هنا أن القرآن أشار أن الهجرة بها سعة لمن أراد.
ولكن الغربة كما يسمونها (كربه) كربة تعصر في القلب ولن يتحسس هذا المعنى إلا من صار غريبًا، تجد نفسك بين عشية وضحاها بين أناس جدد لا تكن لهم أي مشاعر بل ربما تقع فيما هو أصعب أن تجد نفسك لا تستطيع التأقلم مع الوضع الجديد فتصاب بالتشتت الرهيب بين رغبتك في العودة، وربما كانت العودة من درب المستحيل كمن تدار بوطنهم الحروب، أو تبقى غريب وتتجرع مرارة الغربة مع الوحده، وهذا صعب.
ماذا أفعل لكى يهدأ شوقي لوطني؟
أيها المغترب صبرًا فليس أمامك خيار إذا كنت لا تستطيع العودة لوطنك فلا تقف مكتوف الأيدي لأن هذا الإحساس إن ظل مسيطرًا على تفكيرك ومشاعرك، ستهزم بالأكيد أمام نفسك، قم وانهض واحتضن نفسك وقويها وحاول أن تصنع لنفسك وطنًا مؤقتًا يحميك من نفسك.
فلقد خلقنا الله فى البيت الواحد مختلفين في الفكر والشكل واللون فكذلك الأوطان خلقه الله لنا مختلفة ولكن من السهل جدأ الإندماج سويا.
قال الله تعالى :”وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” فالإختلاط والأندماج سيخفف حدة الغربة عنك كأنك تأخد مسكن للألآمك لن تشفيك تلك المسكنات لكنها تجعلك تهدأ بعضًا من الوقت.
لنا خير مثال في هذا رسول السلام والإسلام عندما اضطر للهجرة من مكة للمدينة وقف يرثي وطنه الذي ترك قلبه فيه وقال: ” والله يامكة إنك لأحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن أهلي أخرجوني منك ماخرجت” فنجده صلى الله عليه وسلم خرج مضطرًا.
ونجد أيضًا نبي الله موسي عليه السلام قد خرج من مصر أيضًا مضطر عندما وجد الملأ يأتمرون به ليقتلوه فخرج منها خائف يترقب، فهنا نجد الرسل وهم أفضل وأحب خلق الله إلي الله قد اضطروا للخروج من أوطانهم للبحث عن الأمان وصبروا على ذلك.
فوائد السفر:
وقالو قديمًا في السفر سبع فوائد:
1- الترويح عن النفس:
ربما يتعرض الإنسان لضغوط نفسية قوية وتسيطر على أحاسيسه فيحتاج لراحة في مكان تطيب معه نفسه، وليس الشرط أن يسافر لمكان بعيد، ربما لو سافر لمكان آخر فهذا كفيل للراحة وكي يعود ليمارس حياته بشكل أكثر نشاطًا.
2- اكتساب المعيشة:
أحيانا يضيق العيش بنا في وطننا فنجد الملاذ في الخروج والبحث عن المال وتوفير حياة كريمة لنا ربما لوقت طويل ولكن مادام هذا مجدى يهون التعب.
3- تحصيل العلم :
نجد كثيرًا ممن لديهم نهم تحصيل العلم يرتحل وراءه من أقصى الدنيا لأقصاها دون ملل أو كلل فنجد الأطباء والمهندسون وغيرهم يسافرون إلى البلاد المتقدمة بالعلوم حتى يفيدوا ويستفادوا من خبرات العلماء على مستوى العالم ومثال ذلك : “ابن بطوطة ” الذي اشتهر بكثرة الترحال فاعتبر أشهر رحاله في التاريخ.
4- تحصيل الآداب:
يلتقي الإنسان خلال سفره بأناس من شعوب مختلفة ولكل شعب عاداته المختلفة، ففي ذلك تستطيع التعرف على عاداتهم وفي ذلك متعه كبيرة.
5- تكوين صداقات جديدة:
خلال السفر تتعرف على أناس جدد وتتبادلوا سويًا لأفكار والعادات التقاليد مما ينمى كثير من التقارب فتنشأ الصداقات.
6- زيارة الأقارب:
نجد هذا كثيرًا بين العرب عندما تطول مدة غيابه فيقوم أهله بزيارته وفي تلك الزيارة يتعرف الأهل أيضًا على الشعوب وثقافاتها، وكذلك قام بصلة الرحم.
7- استجابة الدعوة :
فللمسافر دعوة لا ترد فيستحب منك أن تطلب الدعاء ممن تتوسم فيهم الدعاء المقبول، وكذلك المسافر أوصيه واطلب منه أن يدعو لك فدعوته مجابة.
فهذه هي فؤائد السفر وفيها أكثر من ذلك بكثير ولكن عيب السفر الوحيد هو غربة القلب فالإنسان كعقل بإمكانه أن يتأقلم مع أي مكان ما داموا بشرًا مثلنا فهذه فطرة خلقها الله فينا ومن يخرج عنها يكون شخصًا انطوائيًا أو أي مسمى ممن يطلقها عليهم علماء النفس.
ولكن هل للقلب نفس السرعة في التأقلم مع الوطن الجديد، هيهات هيهات ياقلب الغريب كيف لك العيش سليم وقد أخذك الحنين، تريد العيش حرًا لكن سجنك الشوق، وكسرتك الألآم ، وغلف قلبك الحزن واحتواه.
ضريبة الغربة
لكل شيء ثمن وكذلك الغربة، فضريبة الغربة أولها البعد عن الوطن وتظل طول الغربة تبحث عن وطنك في وجوه الناس، تتبع أي جديد عنها، وتفرح وتحزن لأجلها وحدك.
تكبر وتهرم وتأخد منك الغربة قوتك وشبابك وعندما تعود لوطنك تريد أن تعيش مافاتك، ولكن مافات لن يعود وقتها تشعر بغصه بالحلق لن يشعر بها أحد ممن حولك.
لكن العجب في الغربة أن تعيش في الغربة بلا وطن وعندما تعود بعد فترة طويلة تجد أنك أيضًا أصبحت في وطنك غريب، فصديقك أصبح له صديق غيرك، معالم الشارع الذي ولدت به قد تغيرت.
أحبابك الذين كنت ترتاح للجلوس وسماع قصصهم ويفضلونك عن غيرك ربما ماتوا أو مرضوا ولم يستطيعوا حتى أن يستقبلوك كالسابق.
تجد أنك تركت غربة لتعود لغربة أكبر، فصور ذكرياتهم ليس لك مكان بينهم، وذكرياتك ليس لأحبابك مكان فيها.
عذرا وطني، فنسيمك العليل وحضنك الدافي كان يقوي عظامي، عذرًا أبي وأمي كم أشتاق ليداكما الحانية تمسح على رأسي, ولكن غربتي حتى حرمتني من لحظة وداعٍ، لم يبقي لى إلا أن أبك على قبركما، لم يبقى لي إلا أن أتمنى أن أقف على قبركما.
عزيزي الغريب إذا أرت الغربة سواء رغبةً منك أو قهرًا عنك فاعلم أن من هو أفضل منك (الأنبياء) قد تجرعوا مرارة الغربة وصبروا.
فصبرًا فلكل ليلٍ مظلمٍ شمسُ ستشرق..